عظماؤنا في التاريخ _ أبو بكر الصديق رضي الله عنه
اسمه
هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة العتيق الصديق. أما العتيق فهو الجميل ، الغاية في الجود والخير، وأما الصديق فهو الذي يصدقه الناس ، ولا يكذبونه ، والذي أسرع إلى تصديق الرسول في كل أمر يخبر به الرسول عن ربه جاهليته و صفته كان في الجاهلية من أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها من خير أو شر، تاجراً موفقاً ذا خلق وفضل ، محبباً في قومه لم يشرب خمراً ، ولم يعبد صنماً ولم يؤثر عنه ما يثلم شرفه أو ينتقص مروءته وكان أبيض نحيفاً، قليل لحم الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، كثير شعر الرأس ، منحني القامة إسلامه كان صديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة، فلما أكرم الله رسوله برسالته، كان أول من دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام أبو بكر، فما لبث أن أسلم، غير متردد ولا متلكئ. و في ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا وكانت منه عنده كبوة و نظر و تردد، إلا ما كان من أبي بكر ما تلبث عنه حين ذكرته له و ما تردت فيه". و ظل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاون معه في مختلف مراحل الدعوة ، كأنصح ما يكون مؤمن لربه ولنبيه ولدينه . تحمل من الأذى ما حمله على أن يكون صاحبه في الهجرة ، ورفيقه في الغار، وبذل في سبيل الإسلام من ماله ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول: "ما نفعني مال قط كما نفعي مال أبي بكر " أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي، استمر يؤيد رسول الله وينصره حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقرب الصحابة إلى قلبه، و أجدرهم في نظره بخلافته من بعده، وحسبك فيه شهادة رسول الله العظيم " إن من أمنِّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام و مودته " أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ، ومعنى " من أمن الناس علي " أي أسمح بماله وأبذله ولم يرد به معنى الامتنان في خلافته لما بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة، كان أمر المسلمين مضطرباً لوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وارتداد بعض قبائل العرب ، وامتناع بعضها عن الخضوع لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كانت الروم تتأهب لغزو الحجاز، وكان جيش أسامة ـ وهو الذي أعده الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته لرد عدوان الروم ـ واقفاً على أبواب المدينة ينتظر الأمر بالمسير، فقام أبو بكر بعبء الخلافة على خير ما يقوم به رجل في التاريخ ** وقف من حروب الردة وقفة الحازم المصمم على تأديب المرتدين والخارجين على طاعة الدولة، ومع أن الصحابة جميعا كانوا لا يرون محاربة هؤلاء، فان أبا بكر ظل وحده مصمما على قتالهم ، حتى شرح الله صدور الصحابة لذلك ، فساروا على بركة الله يثبتون الإسلام من جديد في ربوع الجزيرة، وكان نصر الله عظيماً، وكان القضاء التام على الفتنة وهي في مهدها ** وأنفذ جيش أسامة كما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان بدء الفتوحات الميمونة في نشر الإسلام وتحرير الشعوب ** وسار في المسلمين سيرة ورع عن أموالهم ، وزهد في دنياهم ، وسهر على مصالحهم ، وإشفاق على ضعفائهم ، وشدة على أقويائهم ، وكان دستوره في الحكم هو الخطاب الذي ألقاه عقب توليه الخلافة "إني قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني ، الصدق أمانة ، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق ، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمّهم الله بالبلاء ، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم " أبرز نواحي عظمته لأبي بكر رضي الله عنه نواح متعددة من العظمة، قد يشارك في كثير منها كثيراً من عظماء الصحابة، ولكن ما يمتاز به عن كثير منهم خصال جعلته في الذروة من عظماء الإسلام وأهمها: الإيمان ، التضحية ، الحزم والعقل، التواضع والعفة ، الإيمان بالله و رسوله. و هو إيمان حمل الصديق على أن يكون أوّل من أسلم ، وعلى أن يصدّق بكل ما يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من غير شك ولا تردد، وانظر ما أروع موقفه من حادث الإسراء والمعراج ، حين قص النبي صلى الله عليه وسلم على مشركي قريش وعلى صحابته ما حدث له في تلك الليلة، فارتد من ارتد من ضعفاء الإيمان ، و هزئت قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم أيما هزء ، و جاء أبو جهل إلى أبي بكر لينظر ماذا يكون موقفه من هذه الحادثة العجيبة، فإذا بأبي بكر يرد على رئيس الضلالة في قريش بهدوء المؤمن الواثق بنبيه، المطمئن إلى صدق رسوله: أوقد قال ذلك؟ فيقول أبو جهل: نعم! فيقول الصديق: لئن قال ذلك لقد صدق. قال أبو جهل ومن معه: تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس و عاد قبل أن يصبح؟ قال أبو بكر: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، من خبر السماء في غدوة أو روحة. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستمع منه إلى حديث الإسراء ويصدقه و يقول: أشهد أنك رسول الله. متفق عليه إنه إيمان يبلغ الذروة ، فلا عجب أن يبلغ صاحبه به ذروة العظمة بين عظماء الإسلام 2 - تضحيته بنفسه و بماله في سبيل الدعوة وهو نتيجة محتمة لإيمان أبي بكر ، وما دخل الإيمان قلب مؤمن إلا حمله أول ما يحمله على البذل والتضحية والفداء، فكيف إذا كان إيماناً كإيمان أبي بكر الصديق؟ ضحى أبو بكر بنفسه دون رسول الله حين دفع عنه قريشا في فناء الكعبة وهي تريد أن تخنقه، فما كان من قريش إلا أن مالت على أبي بكر تصفعه وتضربه حتى حمل مغشياً عليه إلى بيته ، لا يتبين أنفه من خده أو عينيه ، فلما أفاق كان أول ما سأل عنه: ماذا فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟ وضحى بنفسه حين هاجر معه، و قريش تَّـجِدُ في طلبه تريد الفتك به ، وانظر ما أروع هذا الموقف حين يقول أبو بكر للرسول وقد وقفت قريش على باب الغار: يا رسول الله: لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لرآنا.. ولكن الرسول عَـلم كيف يُـطمئن من روع صديقه بالكلمة الخالدة : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ وضحى بماله كله في سبيل الدعوة. تقول عائشة رضي الله عنها: أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً، و لما طلب الرسول من الصحابة تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك ، تقدم الصحابة بمال وجاء عثمان بمال كثير ، وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء أبو بكر بكل ماله ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ " قال: أبقيت لهم الله ورسوله بخ بخ يا أبا بكر. . ما أروع إيمانك بالله ورسوله ، وما أروع بذلك في سبيل الله ورسوله و شريعته؟ 3 – عقله الكبير وحزمه عند الشدائد وحسبك من عقله أنه في الجاهلية أبى أن يسجد للأصنام ، وقومه يتهافتون على عبادتها ، وأبى أن يشرب الخمر، وقومه يتمادحون في شربها وإراقتها ... لقد أدرك بعقله الكبير أن عبادة الأصنام سخف وضلالة ، وأن شرب الخمر أذى وانحلال ، وحسبك من حزمه موقفه يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم ، ويوم قامت حروب الردة . لقد جزع الصحابة لوفاة رسول الله جزعا بالغاً ، حتى خرس بعضهم ، وأقعد بعضهم ، و نادى عمر: إن الرسول لم يمت ، وسيعود . إلا أن أبا بكر أعلن أن رسول الله مات كما يموت الناس جميعاً ، ورد عمر عن قوله ، وهدأ من غليان النفوس ، و رد السكينة إلى القلوب ، وذكر المؤمنين بقول الله تبارك وتعالى: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " . سورة آل عمران : الآية 144 وأما موقفه من حروب الردة ، فهو أعظم ما يؤثر عن الرجال من الحزم المصمم ، والإرادة الحازمة في مواقف الشدة. ولولا أن ثبت الله قلب أبي بكر على الحق، وآتاه حزم أولي العزم من الأنبياء والرسل ، لطوحت الفتنة بصرح الإسلام الفتي و دولته… ومن هنا كان أبو بكر المؤسس الثاني للإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم 4 - تواضعه وعفته والعظيم مثل أبي بكر أبعد من أن يغره الملك ، وتنأى به الرئاسة عن آداب الإسلام وأخلاقه ، ظل في الخلافة كما كان قبلها ، لينا سهلا رحيما بالمسلمين ، غيورا عليهم . وحسبك من هذه القصة التالية مثلا على تواضع أبي بكر في خلافته كان أبو بكر يعتاد أن يحلب الغنم للنسوة العاجزات ، وللفتيات القاصرات كل صباح ، فلما ولي الخلافة قالت بنات الحي: الآن لا يحلب لنا أبو بكر أغنامنا . فبلغ ذلك أبا بكر فقال: " بلى والله لأحلبن لكن كما كنت أصنع من قبل، و أرجو ألا يغيرني الله عن خلق كنت أعتاده قبل الخلافة لا. هذه و الله هي العظمة … و هذا لعَمْرُ الله هو العظيم . و مات أبو بكر ولم يخلف متاعاً ولا مالا ، ولم يستطب من مال الخلافة إلا ما أجازه له المسلمون ، بل لقد اشتهت زوجته حلواً فلم تجد ثمنه عنده ، فقالت زوجته: سأقتصد من نفقتنا اليومية حتى أجمع ثمن الحلوى، واقتصدت من نفقة بيتها ما استطاعت معه أن تشتري ما تريد من الحلوى. فلما بلغ ذلك أبا بكر قال: لا جرم أننا أخذنا من بيت مال المسلمين ما يزيد عن حاجتنا ، ثم أنقص من راتبه بمقدار ما استطاعت زوجته أن تقتصده إنه لموقف يطأطئ فيه عظماء الدنيا رؤوسهم احتراماً لصاحبه و إكباراً… إنه لموقف العظمة التي تتسامى عن أهواء النفس وشهواتها وحاجاتها… لتذكر حق الأمة و مطاليبها ، و تحفظ لها حقوقها وأموالها. يرحمك الله أيها الصديق الأكبر و طبت حياً و ميتا من كلماته الخالدة 1 - أيها الناس : " أإن كثر أعداؤكم ، وقل عددكم ، ركب الشيطان منكم هذا المركب؟ والله ليظهرن هذا الدين على الأديان كلها، ولو كره المشركون، قوله الحق ، و وعده الصدق (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) 2 - أيها الناس : " إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل أمر ، وعلى كل حال ، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم ، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير ، من يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك ، وإياكم والفخر، و ما فخر من خلق من التراب و إلى التراب يعود 3 - ألا إن لكل أمر جوامع ، فمن بلغها فهي حسبه، ومن عمل لله كفاه الله. عليكم بالجد والقصد ، فإن القصد أبلغ . ألا إنه لا دين لأحد لا إيمان له ، ولا أجر لمن لا حسبة له ، ولا عمل لمن لا نية له ، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به. هي التجارة التي دل الله عليها، و نجا بها من الخزي ، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة المصدر : كتاب"عظماؤنا في التاريخ" للأستاذ مصطفى السباعي |