الدستور الجديد واشكالية الهوية
يعتبر الخطاب الملكي لتاسع مارس2011 منعطفا تاريخيا بين عهدين، عهد العشرية الأولى من حكم محمد السادس التي كان آخر دستور لعهد الحسن الثاني رحمه الله هو المحدد لطريقة الحكم وبنية الدولة والمؤسسات السياسية، وعهد يطل على دستور محمد السادس الذي بدت ملامحه الكبرى جلية في هذا الخطاب، سواء فيما يخص بنية الدولة وإعادة النظر في تركيبتها ومهام الوحدات اللامركزية، أو فيما يتعلق بالإصلاح السياسي والمؤسساتي من فصل للسلط وتوضيح اختصاصاتها وتقوية الأجهزة المنتخبة وتوضيح الأدوار والمسؤوليات وتنصيص على منظومة إضافية تهم الحقوق والحريات العامة وبالنظر لمضامين الخطاب الملكي ومحدداته وتوجيهاته، يمكن اعتباره مسارا مفصليا يمكن أن يطبع حكم محمد السادس للعشرية القادمة ولما بعدها، على اعتبار أن ما جاء فيه تجاوز بشكل كبير مختلف مطالب الإصلاح المتضمنة في المذكرات والبيانات والمواقف المعبر عنها من قبل الفاعلين السياسيين. إذا كان المغرب يحاول في الوقت الراهن وضع تصور عام للإصلاح السياسي والمؤسساتي، عبر آلية المراجعة الدستورية، فإن الجهوية تعتبر من صميم إصلاح بنية الدولة وطرق اشتغال المؤسسات وعلاقة السلط ببعضها ومراجعة نظام الغرفة الثانية بالبرلمان المغربي. ومن شأن هذه المراجعة الشاملة للدستور (وليس المراجعة الجزئية أو التعديل الشكلي) أن تعيد النظر في وظائف الدولة من أساسها، وفي بنية النسق السياسي والمؤسساتي والمالي المغربي، وكذا في آليات وضع وتدبير وتنفيذ السياسات العمومية، وهذا الأمر يعتبر ذا أولوية على اعتبار أهمية دور المؤسسات الدستورية واختصاصاتها. وعلى هذا الأساس يمكن الفصل منهجيا هنا، بين ثلاث محاور أساسية، محور متعلق بالقواعد الدستورية العامة وبالمؤسسات الدستورية وفصل السلط، ومحور خاص بمشروع الجهوية المتقدمة والحكم الذاتي والذي يتطلب بابا خاصا في الدستور المغربي، ومحور أخير يهم أساسا الإطار السياسي والقانوني المرافق لعملية الإصلاح. المحاور الكبرى للإصلاح الدستوري إن مجرد الحديث عن الجهوية المتقدمة، وهو نظام جهوي حقيقي يجعل من الهيآت المنتخبة أساس إعداد وتنفيذ البرامج التنموية الجهوية، يضع معالجة نصوص الدستور كمرحلة أساسية وضرورية قبل تنزيل الأسس القانونية والمؤسساتية، فإن هذه المعالجة الدستورية تختلف في واقع الأمر حسب الأهداف والغايات منها، وحسب المقاربة المعتمدة للتعامل مع الحاجة للتعديلات الدستورية. فأي لجوء لتغييرٍ في فصول الدستور كان سيعيد النقاش حول الحاجة لدستور جديد عقب العشرية الأولى لحكم الملك محمد السادس، يسطر القواعد الكبرى للإصلاح السياسي المنشود، ويستشرف المرحلة السياسية القادمة، والتي ستبدأ بقواعد جديدة أكثر تطورا سنة 2012 التي تعتبر سنة مفصلية في سياق تجاوز الفوضى السياسية الحالية الناتجة عن انتخابات 2007 و2009. فقد كان التوقع بالفعل أن تتم مراجعة الدستور بمناسبة تنزيل مشروع الجهوية المتقدمة، على اعتبار أن المراجعة الدستورية هي مناسبة لإدراج مقتضيات تهم مختلف الإشكالات المثارة بخصوص المؤسسات، إضافة إلى مجالات أساسية تحتاج بدورها لتعديل دستوري (تركيبة واختصاصات مجلس المستشارين ، المؤسسات القضائية، المحاكم المالية والمجلس الدستوري...). وبالنظر للمحددات السبع الواردة في الخطاب الملكي، يمكن القول أن المغرب على وشك الدخول في مرحلة سياسية جديدة، إذا تم بالفعل استكمال آليات الإصلاح في مستوياته القانونية والتنظيمية. ففيما يخص السلطة التشريعية: يعتبر الحديث عن تقوية سلطة مجلس النواب وإعادة النظر في تركيبة واختصاصات مجلس المستشارين أهم المحاور المتضمَّنة في الخطاب الملكي، ويتعلق الأمر هنا بإعادة النظر في مجال القانون المحدد دستوريا والذي كان يحد من ممارسة البرلمان لمهامه التشريعية، وإعادة النظر في تركيبة واختصاصات مجلس المستشارين الذي سيصبح بمثابة مجلس أعلى للجهات وينتظر أن تكون اختصاصاته منسجمة مع تشكيله ومهامه على هذا المستوى. أما مجلس النواب فيفترض أن يصبح برلمانا حقيقيا من حيث قدرته على مراقبة الحكومة باعتباره أساسها التمثيلي والانتخابي، وقوة التمثيلية تتماثل مع القوة الرقابية وقوة المساءلة، وهي من دعائم الأنظمة الديمقراطية ومن المبادئ الكبرى للحكامة السياسية. ففيما يخص السلطة التنفيذية: فأهم ما يسجل هنا طريقة تشكيلها ومهامها واختصاصات مؤسسة الوزير الأول والأساس الدستوري لعلاقتها مع البرلمان. فالدستور الحالي ينص على تعيين الحكومة من طرف الملك، ويبقى دور البرلمان هامشي وينحصر في عدم الاعتراض على التصريح الحكومي، على اعتبار أن مجلس النواب يصوت على التصريح الحكومي ولا يمنح الثقة في أساسها للحكومة، وبالتالي فإن عملية الإصلاح التي تجعل الحكومة منبثقة عن البرلمان تتلاءم مع القواعد الأساسية للديمقراطية، باعتبار أن الحكومة تصبح منتخبة من قبل البرلمان كمؤسسة تمثل المواطنين كافة. ومن جانب آخر يعتبر الحديث عن تقوية مؤسسة الوزير الأول أهم العناصر المتعلقة بمجال السلطة التنفيذية، فالدستور الحالي يجعل من الوزير الأول مجرد منسق لعمل الوزراء أكثر منه رئيسا لهم، وبالتالي يعتبر التنصيص صراحة على المسؤولية الكاملة لممارسة مهام السلطة التنفيذية يؤدي لوضوح المسؤوليات والاختصاصات أمام البرلمان وأمام الناخبين. وفيما يخص السلطة القضائية: يعتبر الحديث عن استقلالية القضاء أهم المحاور الواردة في الخطاب الملكي، فإصلاح القضاء يتطلب من جهة إيجاد ضمانات دستورية ملائمة وحقيقية، ومن جهة ثانية توفير الشروط القانونية والعملية لتنزيل آليات الإصلاح. وفي هذا السياق ينتظر أن يتم توضيح مجال عمل المجلس الدستوري الذي يجب أن يصبح هيأة للقضاء الدستوري الحقيقي والفعلي وهيأة للبت بين السلط والمؤسسات الدستورية عوض أن يقتصر على مراقبة دستورية القوانين والبت في الطعون الانتخابية. كما يتطلب الأمر هنا تصحيح وضعية المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات التي يجب أن يتم التنصيص على طبيعتها القضائية على مستوى الدستور وليس فقط على مستوى القانون كما هو الحال منذ سنة 2002. إن المراجعة الدستورية غالبا ما تعطي الانطباع بالاستعداد للدخول في مرحلة سياسية جديدة للنظام السياسي ككل ليس فقط لمؤسسة من المؤسسات، مما يعتبر مناسبة لترسيخ هذا الانطباع بتأكيده على أرض الواقع وتنزيل مقتضياته عبر آليات قانونية وتنظيمية وعملية، إضافة إلى التنزيل العملي بتنظيم انتخابات تشريعية ومحلية وجهوية سنة 2012 تقطع مع التراجعات التي شهدها المغرب مؤخرا وترسيخ مبادئ الحكامة السياسية وفسح المجال أمام نخبة سياسية تمثل المواطنين حقيقة وليس عبر مؤسسات مشبوهة ومشكوك في مشروعيتها السياسية والانتخابية. وإذا كان البرلمان (مجلس النواب على وجه الخصوص) يعتبر المحك السياسي لتنزيل أهم محاور الإصلاح السياسي، فإن تشكيل وانتخاب المؤسسات الجهوية يعتبر شقا أساسيا في إنجاح عملية الإصلاح في حد ذاتها، وتعتبر الانتخابات الجهوية التي سيتم تنظيمها سنة 2012 مناسبة لحل المجالس المحلية الحالية وانتخاب مجالس جديدة تكون ذات مصداقية وتكون موازية للمؤسسات الجهوية المراد إحداثها وتفعيل دورها التنموي. مشروع الجهوية المتقدمة يعتبر اللجوء للمراجعة الدستورية مناسبة لتنزيل الجهوية المتقدمة بقدر ما يعتبر الحديث عن الجهوية مناسبة للإصلاح السياسي والمؤسساتي عبر الآلية الدستورية، على اعتبار أن عملية المراجعة أو الإصلاح ستعطي الانطباع بأن الأمر يتعلق باعتماد دستور جديد "لعهد محمد السادس". وفي هذا الإطار، وبالنظر للأهمية التي يكتسيها موضوع الجهوية الإدارية الموسعة أو المتقدمة، يتطلب إنجاح هذا الورش الوطني الكبير اعتماد مقاربة شاملة لتحديث المنظومة القانونية والرقي بالجهة لتصبح مؤسسة دستورية حقيقية على مستوى الأساس الانتخابي، وعلى أسس التنصيص على استقلالية على مستوى الإمكانات المادية والبشرية وظروف العمل وعلاقتها بالسلطة المركزية. وإذا كان الدستور الحالي قد خصص الباب الحادي عشر منه للجماعات المحلية كهيآت لامركزية، فإنه لم يضمن هذا المجال سوى ثلاث فصول يتيمة تنص على قواعد عامة وبشكل مقتضب، وتضع عائقا دستوريا أمام اعتماد جهوية حقيقية تقوم على مبادئ التدبير المحلي لشؤون الجهة، وذلك من خلال النص صراحة على جعل العامل السلطة التنفيذية والآمر بالصرف على مستوى مجالس الجهات. وعلى هذا الأساس تعتبر مناقشة الإطار الدستوري مسألة جوهرية، وبالتالي تعد المراجعة الدستورية الخطوة الأساسية في سياق اعتماد نظام جهوي متطور وتنزيل جهوية متقدمة، وهو ما جاء في صلب الخطاب الملكي الذي لم يقتصر على الإصلاح القانوني وإنما اعتبر المراجعة الدستورية أساس الرقي بالجهة إلى مؤسسة تمثيلية وتنموية حقيقية. فمشروع الجهوية المتقدمة، كورش وطني كبير، سيكون مناسبة لترتيب عناصر الإصلاح السياسي وتحديد مجالاته وتنزيلها دستوريا ومؤسساتيا، كما سيكون مرحلة سياسية في سياق إعادة النظر في التنظيم الإداري واللامركزي للمملكة. فالجهوية المتقدمة إذا يمكن تلخيصها في كونها تنزيلا لنظام أكثر تقدما من النظام المطبق حاليا، بمعنى أن عملية الإصلاح يجب أن تنطلق من دسترة الجهوية وتوسيع اختصاصات الجهات وإعادة تركيب البنيات الجهوية، وتخويل المنتخبين الاختصاصات التقريرية والتنفيذية، وإيجاد نظام يعزز الاستقلالية المالية والتدبيرية للجهات وإعادة النظر في علاقتها بالسلطات المركزية، إضافة إلى اعتماد نظام مالي جهوي ملائم للحاجيات التنموية الجهوية. فعلى مستوى الجهاز التنفيذي للجهات، تتجلى ضرورة اللجوء المسبق للملاءمة الدستورية ومراجعة المقتضيات التي تمنح العمال هذه السلطات (الفصل 101 من الدستور المغربي) في اتجاه تحويل هذه السلط والصلاحيات لرؤساء مجالس الجهات. كما يتعين مراجعة طريقة انتخاب رؤساء الجهات واعتماد المقاربات الأكثر ديمقراطية في تشكيل الهيآت التنفيذية للجهات. أما على مستوى تشكيل المجالس الجهوية المنتخَبة، فيتطلب الأمر فرز مؤسسات تمثيلية حقيقية، قادرة على تدبير التنمية الجهوية باستقلالية في القرار وفي التصرف، يرتبط أساسا باعتماد أسلوب الانتخاب المباشر لأعضاء المجالس الجهوية، إما على مستويات إقليمية كدوائر انتخابية، أو اعتماد الجهة كدائرة انتخابية واحدة، مما يسمح باعتماد البرامج التنموية للأحزاب كأساس للتنافس الانتخابي، مع اعتماد عتبة ملائمة ونظام متطور للاقتراع يسمح بتشكيل مجالس جهوية منسجمة وذات تمثيلية حقيقية. وهذا الشرط السياسي والقانوني يرتبط بشكل خاص أيضا بضرورة اعتماد مقاربات واضحة للتقطيع الترابي وإحداث جهات تنموية، عوض أن يبقى الإطار الترابي للجهة مجرد تجميع للعمالات والأقاليم (كما هو الحال الآن) والتي تعد بدورها تجميعا للجماعات الحضرية والقروية. إن التقطيع الترابي الجهوي، الذي يعد أساس التقسيم الانتخابي، يعتبر عملية سياسية أولا قبل أن تكون تقنية، ولابد من أن تعتمد على المقاربة التنموية وعلى الحد الأدنى من الانسجام بين مكونات الجهة، وعلى القدرة على تواصل أفضل بين أرجائها. ئء ولا يهم هنا عدد الجهات المفترض أن تُقسم المملكة إليه ولا حجم هذه الجهات وطبيعتها الجغرافية، ولا تعتبر هذه المعطيات في واقع الأمر ذات أولوية في اعتماد التقطيع الأكثر ملاءمة، وإنما يتطلب الأمر اعتماد مناهج علمية تجمع بين الحاجيات التنموية للمناطق والصيغة المثلى لتحقيقها بشكل يضمن الانسجام الاجتماعي الذي يعتبر أمرا جوهريا وأساسيا، ويحقق أكبر قدر من التوازن النسبي بين مكونات كل جهة. إن عملية الإصلاح السياسي على مستوى الدستور تعتبر مرحلة أساسية في وضع القواعد الأساسية لبنية الدولة وللسلط ولمهامها واختصاصاتها المركزية والجهوية. وإذا كانت المراجعة الدستورية مناسبة للإصلاح فإن التنزيل القانوني والتنظيمي الملائم يعتبرا شرطا لإنجاح الإصلاح والخروج من دائرة التأمل إلى واقع الأمر. وتعتبر الأنظمة الانتخابية أهم معايير إنجاح الاستحقاقات السياسية والانتخابية واهم معايير قياس مدى تطور النظام السياسي بشكل عام، والنظام الجهوي على الخصوص. فهذا المعطى الأساسي يسمح بتشكيل هيآت ممثِّلة للسكان على المستوى الوطني (البرلمان) والجهوي، كما يمكِّن من إفراز مؤسسات منتخبة ذات قوة سياسية تمثيلية فعلية وحقيقية. الشروط القانونية والسياسية للإصلاح إن عملية الإصلاح في حد ذاتها -ولمجرد الإصلاح - تصبح بدون معنى إذا لم تستحضر كامل المكونات الأساسية المرتبطة بها، وأية إجراءات متخذة في سياق المراجعة الدستورية وعلى الرغم من أهميتها تبقى رهينة التنزيل القانوني والسياسي على أرض الواقع. فإذا كانت اللجنة الاستشارية مطالبة بإعداد المشروع شهر يونيو القادم، على افتراض أن الاستفتاء سينظم في شهر شتنبر، فإن المنظومة القانونية والتنظيمية ستتطلب عدة أشهر من العمل المضني والأشغال الماراطونية على مستوى الحكومة والبرلمان لإعداد شروط التنزيل وقواعد انتخاب المؤسسات التمثيلية والتشريعية. فالقوانين التنظيمية لمجلسي البرلمان والقوانين الانتخابية تتطلب مراحل عدة من التشاور والمناقشة والدراسة على مختلف المستويات السياسية والمؤسساتية، والإعداد للانتخابات العامة والجهوية لسنة 2012 في ظل الدستور الجديد يتعين أن يتصف بنفس الأهمية التي يكتسيها دستور محمد السادس بقواعده الجديدة ومقتضياته الإصلاحية. كما يعتبر اعتماد قانون تنظيمي خاص بنظام الجهوية إجراء ضروريا لترسيخ المكانة التي يجب أن تحتلها الجهة، على أساس أن يتضمن قواعد قانونية توسع من اختصاصات مجالس الجهات، وترسي دعائم ديمقراطية حقيقية، ويكون هذا القانون التنظيمي ضمن ترسانة من النصوص القانونية والتنظيمية التي تهم مختلف جوانب اللامركزية والتنمية الجهوية، على أساس أن يتم تقنين وتدوين جميع النصوص القانونية والتنظيمية المتعلقة بالجهة والتنمية الجهوية والجماعات المحلية في "مدونة الجهوية واللامركزية الترابيةcode de Régionalisation et décentralisation territoriale" . وبمقابل ذلك، ومن أجل مأسسة العلاقة بين الجهات والسلطات المركزية، وفي سياق تحويل دور ومهام سلطات الوصاية بهذا الخصوص نحو مواكبة ودعم الجهات ومتابعة تدبيرها المحلي ورفع مردوديتها التنموية، يُفترض إحداثوزارة أو كتابة الدولة في اللامركزية والتنمية الجهوية كما هو جار به العمل في العديد من الأنظمة المتقدمة، وهو اقتراح يدفع في اتجاه تخصص قطاع وزاري بتحديث وتأهيل الوحدات اللامركزية وتطوير أدائها |