الوقفة الأولى عادل عبدالله هندي في زرع الإيجابية في قلوب الناسأخي القارئ الكريم: وقفة اليوم مع الإيجابية التي نحلم بها نتعلمها من مواقف وسيرة النبي الحبيب، من خلال حديث:«اغتَنِم خمْسًا قبْل خمس: شَبابَك قبل هِرَمِك، وصحَّتكَ قبل سِقَمِك، وغِنَاءَك قبل فَقْرِك، وفَراغَك قَبلَ شُغلِك، وحيَاتَك قبْل مَوْتِك»[1 لأنَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو القدوة لكل مسلم يخاف الآخرة ويرجو رحمة ربه، فإن منهجه خير المناهج، ومتميز لا شك في ذلك، وكانت حياته كلها مليئة بالإيجابية –في كل نواحي الحياة– مع نفسه والآخرين، "فلقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من كل خُلُقٍ جميل أكملَهُ وأجملَه، وهو في كل خُلُقٍ في الذروة العُلْياَ. فقد حباه الله تعالى بالأخلاق الكريمة، والخِصَال الحميدة في التعامل مع الآخرين، فكَان سَهْلاً لَيِّنا، قريبًا مِن الناس، مُجِيبًا لدعوة مَنْ دعَاه، قاضيًا لحاجَةِ مَن استقضاه، جابرًا لقلْب مَن سَأله، لا يَحْرِمه، ولا يَرُدُّه خائبًا. وإذا أراد أصحابه منه أَمْرًا وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذورٌ، وكان يَقْبَل مِن مُحْسِنهم، ويعفُو عن مُسِيئهم، ولم يكن يُعَاشِر جليسا، إلا أتمَّ عِشْرَته وأحسنَها، فكان لا يعْبس في وجْهه، ولا يغلُظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَهُ، ولا يُمْسِك عليه فلتَات لِسانِه، ولا يُؤَاخِذه بما يصدر منه مِن جَفْوة؛ بل يُحْسِن إليه غايةَ الإحْسَان ويحتملُه غايةَ الاحْتمَال"[2 ولقـد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يوم في دعوته المتميزة حربًا على السلبية والجمود والتقوقع؛ وذلك لأن دعوة الإسلام دعوة عمليَّةٌ حيَّةٌ باقيةٌ؛ لتتصل بحياة الناس بكل ما تعنيه كلمة الحياة من معنى ولما ضلت فهوم كثير من المسلمين –إلا من رحم الله–، وفهموا الإسلام فهمًا ضيقًا دفعهم إلى تعطيل طاقة الفرد وحيويته وإيجابيته وإنتاجه في المجتمع الذي يحيا فيه بحجة العزف عن الدنيا والمبالغة في الزهد والإقبال على الله .. فترى هذا معتزلاً المجتمع، وقد انزوى فقط على عمله ووظيفته. كان لا بد أن يأتي منهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليربي ويعلم ويصحح المفاهيم، ويحرك الأفئدة والأرواح بكلامه وعملهولقد وضح المنهج السوي في تكوين الشخصية من خلال دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الاختلاط بالناس والتفاعل الإيجابي معهم دون العزلة فلقد ورد عَنْ ابْنِ عُمَرَ – رضى الله عنهما – قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الَّذِييُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَايُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[3]. وفي لفظ الترمذي: "الْمُسْلِمُ إِذَا كَانَ مُخَالِطًا النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ"[4]ولقد كانت حياته كلها إيجابية –كما قلنا–، ومن صور ذلك1- وهو يموت كان ينصح أمته، ويبذل الخير للآخرين، ومثالاً على ذلك فعند موته كان يوصي قائلاً: «الصلاة وما ملكت أيمانكم»[5]، ويقول سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان صلى الله عليه وسلم يقولها حين حضرته الوفاة وهو يغرغر[6]".. فما أعظم اهتمامه بأمته؟!، وأعظِم به من شخصية إيجابية متميزة، فائقة الروعة والجدية والعمل، حتى عند الموت2- وتربى أصحابه على ذلك المعنى العظيم، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم· «اغتَنِم خمْسًا قبْل خمس: شَبابَك قبل هِرَمِك، وصحَّتكَ قبل سِقَمِك، وغِنَاءَك قبل فَقْرِك، وفَراغَك قَبلَ شُغلِك، وحيَاتَك قبْل مَوْتِك»[7· عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَوَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ..»[8]3- وكان يشجع على الإيجابية للأفراد والجماعات، فدفع الثقة في نفوس الشباب كمثل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر – رضي الله عنهما – : (نعم العبد عبد الله لو كان يصلي من الليل)([9]) وليس مقياس الخيرية في الناس أن يُقَدِّم الواحد منهم عملاً عظيمًا، ولكن أن يُقَدِّم ما يقدرُ عليه1- وكان يستعمل إيجابية كل صحابي فيما يستطيعه في كل الجوانب، ففي الجانب السياسي مثلا: كان سيدنا سلمان الفارسي وابتكار فكرة الخندق، من خلال خلفيته الحضارية والعسكرية في فارس[10]، وفرح المسلمون بفكرته، وفي الجانب الاقتصادي: كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف تاجرًا ثريًّا، يبيع ويشتري[11]، وفي جانب الفكر والتربية: كان سيدنا زيد بن ثابت، وقد قام بتعلم السريانية[12 2- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العمل الإيجابي من كل أحد، فكثيرًا ما كان يوجه دعوات إيجابية للجميع –فرادى قبل الجماعات– ومن بستان أحاديثه العطرة اقتطفنا هذه الثمرات اليانعة «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»[13 «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»[14· «إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ»[15]. "فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها، حين لا تكون هناك ثمرة من العمل.. حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل وعن التطلع للمستقبل"[16]. إنها دفعة عجيبة للجدية والإيجابية والاستمرار في العمل والبذل «سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيُّ الإِسلَامِ خيْر؟!، فَقَالَ: تُطْعِم الطَّعام، وتَقْرأ السَّلامَ علىَ مَن عَرفت وَمَن لمْ تَعْرف»[17وكلها أعمال فردية، يدفع من خلالها الأفراد على التحرك في الحياة بالإيجابية. وكان نتيجة كل ذلك: أن خرج الخلفاء والعلماء والجنود والشباب يتسابقون في البذل والعطاء والتضحية؛ لعلمهم أن الواحد بهذا السلوك يحجز له مقعدًا في جنة الله رب العالمين. وعلى هذا: فإن "الرسول صلى الله عليه وسلم يريد للمسلم أن يكون قوة إيجابية فاعلة، ويكره له أن يكون قوة سلبية حسيرة"[18ويقول: أ. سيد قطب واصفا نصْرَ رسول الله بهذه الإيجابية في تربيته لأصحابه: "وانتصر محمد بن عبد الله يوم صنع أصحابه – رضوان الله عليهم – صورًا حيَّةً من إيمانه، يوم صاغ من كل منهم قرآنا حيًّا يدب على الأرض، يوم جعل من كل فرد نموذجًا مجسّمًا للإسلام، يراه الناس فيرون الإسلام . ولقد انتصر محمد يوم صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا، وحَوَّل إيمانهم بالإسلام عملاً، وطبع من المصحف عشرات من النسخ، ثم مئات وألوفًا... ولكنه لم يطبعها بمداد على صحائف من ورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من قلوب، وأطلقها تُعَامِل الناس، وتأخذ منهم وتُعطِي، وتقول بالفعل والعمل ها هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله!"[19]، وهذا أصدق معنى يمكن من خلاله توصيل مفهوم الإيجابية من خلال حياة نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلموفي الختام يتبين لنا جليًّا أنَّ1- الإسلام يُرَبِّى أتباعه تربية متميزة فريدة على الإيجابية والمبادرة والاجتهاد، وإحسان العلاقات بين النفس والآخرين، ولهذه أهميتها؛ إذ كيف تنجح الحياة وينجح فيها الإنسان وهو مُشَتَّت الفكر، تائه النفس حيران، سلبي الحركة والبذل؟، لذا كان من اللازم إتباع نهج الإسلام في تمثل الإيجابية والسير على درب الصالحين.2- الإسلام هو أكبر مُشَجِّع لنا على الإيجابية، وإلاَّ فما معنى وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودعوة الغير، وهو من أكبر مظاهر الإيجابية التي تنبني على مُلاحظة المحيط الذي يحيا فيه المسلم، والمبادرة بتغييره3- الشخصية الإيجابية هي شخصية جمعت بين التدين والعلم والمعرفة، ومهارات التعامل الاجتماعي، وآمنت بأنها تمتلك أعظم رسالة في العالم من شأنها أن تغير مجرى التاريخ، إذا تمَّ إيصالها بالشكل الصحيح-4 أنَّ الإسلام بتعاليمه يصلح للتطبيق في كل زمان ومكان، وفي ذلك دعوة للعودة للمنهج الصافي، الذي به الإصلاح والصلاح، وبه الخروج من الأزمات والمشاكل، يقول الفيلسوف برنارد شو: "لا مخرج للإنسانية ممَّا تورَّطت فيه من المُهْلِكات إلا الإسلام"[20]، وتلك شهادة غير إسلامية، والفضل ما شهدت به الأعداءوعلى هذا فإنه لا بد من عودة حميدة إلى نهج الإسلام؛ لتسعد البشرية كلها وتسعد أمتنا الإسلامية: "فإن الأمم إذا لم تنتعش برسالات السماء، فهي جماهير من موتى القلوب، أو هي ألوف من الرِّمم الهامدة، وإن حرَّكتها الغرائزُ السافلة"[21 الشخصية الإيجابية هي التي تجيد التعامل مع نفسها، وتستطيع أن تنقذ نفسها من خطورة القلق والهموم، وتتخطى العقبات، ثم إنها تنجح – بالفعل – في تكوين العلاقات وكسب القلوب، وإجادة التواصل الفعال والمثمر([1]) رواه الحاكم في مستدركه على الشيخين، وقال عنه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه – كتاب الرقاق – ح7927، ج4، 447([2]) بتصرف يسير: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان – للشيخ: عبد الرحمن بن ناصر السعدي، ط. مؤسسة الرسالة – مصر، ط1، 2002م، تفسير سورة القلم، ص879([3]) أخرجه ابن ماجه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (4032) ص666، ط1، دار المعارف للنشر والتوزيع – الرياض، بدون تاريخ الطبعة.([4]) رواه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، (باب 55، ج4، رقم 2507، ص662، 663)، إلا أنه لم يسم الصحابي، ولكنه ذكر عن ابن أبي عدي قوله: كان شعبة يرى أن ذلك الصحابي هو ابن عمر، وصححه الشيخ الألباني في أحكامه على سنن الترمذي ص564، ط1، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع– الرياض "بدون تاريخ الطبعة([5]) صحيح: رواه ابن ماجه في سننه، وصححه الألباني– كتاب الوصايا – باب: هل أوصى رسول الله؟ – ح2200 – المجلد الثاني– ص363([6]) قال ابن الأثير في النهاية (الغرغرة: أن يُجعل المشروب في الفم ويُردد إلى أصل الحلق، ولا يُبْلَع) باب الغين مع الراء – مادة غرغر – ص360. والغرغرة: هي بلوغ الروح الحلقوم، وعندها يكون الإنسان في آخر مراحل الحياة([7]) سبق تخريجه([8]) صحيح مسلم بشرح النووي، ج16، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والإيمان للقدر والإذعان له، ص215([9]) صحيح: رواه البخاري – كتاب فضائل الصحابة – باب مناقب عبد الله بن عمر بن الخطاب – حديث 3738 – ج3 ص29، 30([10]) الطبقات الكبرى لابن سعد – ج2، 63، تحقيق د. علي محمد عمر – ط1، 2001م – طبعة الشركة الدولية للطباعة – مصر، الناشر: مكتبة الخانجي– القاهرة([11]) صحيح: راجع البخاري في صحيحه: كتاب البيوع – باب (فإذا قضيت الصلاة) ح2048، ج2 ص73، وأخرجه في كتاب: مناقب الأنصار – باب: إخاء النبي بين المهاجرين والأنصار – ح3780، ج3 ص38([12]) صحيح البخاري – كتاب الأحكام – باب ترجمة الحكام، وهل يجوز ترجمان واحد؟ – ج4، 7195 ص341، 342([13]) رواه مسلم في صحيحه – كتاب الإيمان– باب بيان كون النهى عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، ح70 ج1 ص50([14]) رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما – كتاب الأنبياء – باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ح3461 ص493([15]) صحيح، انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، شرحه وصنع فهارسه: الشيخ أحمد شاكر، وحمزة الزين وقالا: حديث صحيح، ج11، والحديث برقم 12916، ص55، الطبعة الأولى لعام 1995م – دار الحديث – القاهرة([16]) قبسات من الرسول أ. محمد قطب، ص 26 – ط9، 1989م – ط. دار الشروق – مصر([17]) صحيح: رواه البخاري – كتاب الإيمان – باب إطعام الطعام من الإسلام – ح12 – ص21 – وباب إفشاء السلام من الإسلام – ح28 – ص26 – ج1([18]) قبسات من الرسول أ. محمد قطب، ص114([19]) دراسات إسلامية أ. سيد قطب، من ص 26: 28 باختصار، ط10، 2002م، ط: دار الشروق – مصر([20]) انظر مقالة: القرآن معجزة الإسلام الخالدة – أ. محمد فريد وجدي– مجلة كنوز الفرقان، العدد الثاني، ص107([21]) مع الله (دراسات في الدعوة والدعاة) للشيخ: محمد الغزالي، ص15 ط: 2003م – بدون رقم الطبعة، ط: نهضة مصر