أربعة عشر ذكوراً، و خمس عشرة إناثاً ، أعقب من أولاده الحسن والحسين و محمد بن الحنفية و عباس و عمر
اسمه و كنيته هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده الأول عبد المطلب. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية ، تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده الثاني. وهي أول هاشمية ولدت هاشميا وكنيته أبو الحسن ، و كناه رسول صلى الله عليه وسلم "أبا تراب" ، فكان علي يحب أن ينادى به مولده ولد بمكة، في السنة الثانية والثلاثين من ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيئته كان أبوه أبو طالب أكبر زعماء قريش و شيخ شيوخها، وله فضل في كف أذى قريش عن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة. وكان ضيق الحال ، كثير العيال ، فاتفق حمزة والرسول صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة ـ على أن يخففا عن أبي طالب مئونة العيال ، فكان علي من نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتربى في حجره، ولازمه حتى بعثه الله بالرسالة صفته كان أسمر اللون ، أصلع الرأس ، ليس في رأسه شعر إلا من خلفه ، أبيض شعر الرأس واللحية، أدعج العينين، عريض المنكبين ، شديد الساعد و اليد، خشن الكفين، عظيم البطن، قريباً إلى السمن، ربعة من الرجال ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الوجه، ضحوك السن، إذا مشى تكفأ ، وإذا أمسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس إسلامه لم يتدنس رضي الله عنه بدنس الجاهلية ، إذ أسلم دون البلوغ ، وأرجح الأقوال: أن عمره حينئذ عشر سنين، فكان أول من أسلم من الصبيان. رآه أبو طالب في أحد شعاب مكة يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم – وكان ذلك ثاني يوم من الرسالة ـ فقال له أبوه: أي بني: ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال علي: يا أبت! آمنت برسول الله ، وصدقت بما جاء به ، وصليت معه لله ، واتبعته! فقال أبو طالب: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فألزمه مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما زال منذ أن أسلم يبدي من حبه للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتفانيه في دعوته ، وتضحيته في سبيلها، ما جعله من أحب الصحابة إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم. استخلفه الرسول صلى الله عليه وسلم في فراشه ليلة الهجرة، و جعله أخاه حين آخى بين المهاجرين والأنصار في المدينة ، وشهد المشاهد كلها مع الرسول صلى الله عليه وسلم، و أبلى فيها البلاء الحسن، ولم يتخلف عن الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة تبوك، إذ استخلفه على المدينة، فقال علي: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ فأجابه عليه السلام: " ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي" رواه البخاري، حديث متواتر وأرسله الرسول صلى الله عليه وسلم بسورة براءة ليقرأها على الناس في موسم الحج في العام التاسع للهجرة، وكان حامل راية الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر الغزوات واستمر في لزوم رسول الله صلى الله عليه وسلم والتضحية في سبيل الإسلام ، حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن زوجه فاطمة، و بشره بالجنة، فكان أحد العشرة المبشرين بها وفضائله كثيرة ، حتى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة من الفضائل ما نقل لعلي رضي الله عنه بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استخلف أبو بكر رضي الله عنه، و رأى إجماع الصحابة على استخلافه بايعه علي عن رضى وطيب نفس، بعد أن كان يرى أنه أحق بالخلافة. و ظل طيلة حياة أبي بكر، نعم العون و الوزير، يساهم في إدارة الدولة وتصريف الشؤون بصدق وإخلاص. و كذلك كان مع عمر، فقد كان له وزير صدق، حتى زوجه بنته أم كلثوم . وكثيرا ما كان عمر يستخلفه على المدينة إذا غاب عنها. وكان في عهد عمر من كبار رجال الدولة، الذين تعقد عليهم الآمال، حتى جعله عمر من الستة الذين يختار منهم الخليفة من بعده. ولما استخلف عثمان بايعه فيمن بايع من جمهور الصحابة، والتزم نصحه ومؤازرته، وكان موقفه منه حين ثارت الفتنة، موقف الناصح والمدافع عنه. ولما أطبق الثوار على بيت الخليفة الشهيد، أرسل ولديه الحسن والحسين بسيفيهما، حتى نفذ قضاء الله في خلافته بويع بالخلافة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكانت أيامه فيها فتن ومعارك دامية صرفت المسلمين مؤقتا عن إتمام رسالتهم العالمية بالفتوح التي بدأت في عهد أبي بكر رضي الله عنه، واستمرت طيلة عهد عمر رضي الله عنه، وشطرا كبيرا من عهد عثمان رضي الله عنه؟ ولذلك لم يتح له أن يتمم الفتوحات ، ويتفرغ للإصلاح والبناء. ولو امتد به الأجل، وخلا عهده من الفتن، لكان كعهد عمر، من أزهى عصور التاريخ الإسلامي عدالة واستقامة ويمنا وبركة على الإسلام ، و رحمة للإنسانية. تولى الخلافة والسيوف مسلطة، والقلوب متغيرة، و دسائس أعداء الله من يهود وغيرهم تعمل عملها في إيقاد جذوة الفتنة، وتفريق كلمة المسلمين، حتى التقى المسلمون وجهاً لوجه في ثلاث معارك كبرى، وعشرات المعارك الصغرى، يسفك بعضهم دماء بعض. و مع يقيننا بإخلاصهم جميعا، واجتهادهم في الحق، فإننا لا ننكر ما كان لخلافهم من أثر استمر حتى اليوم في توهين قوة المسلمين، وإضعاف كيانهم، والتقصير في أداء رسالتهم الإنسانية للعالم قاطبة ، يرحمهم الله ويغفر لهم ومع هذه الفتن التي أحاطت بخلافته ، فقد كان رضي الله عنه، شديدا في الحق، مقيما للعدل، خاشعا لله، مجتهدا في نصح الأمة، يولي الأخيار، ويحاسب المقصرين، ولا يجامل في الحق أبدا، و لا يخاف في الله لومة لائم ، زاهدا في الدنيا ، بعيدا عن الترف، و كما كانت حياته جهادا فقد كان موته استشهادا أسباب استشهاده كان قبول علي رضي الله عنه لفكرة التحكيم ـ في موقعة صفين ـ على غير رضى منه، و كان يرى أن قبول التحكيم بينه وبين معاوية ضعف، بعد أن كادت ترجح كفته في القتال. و لكن جيشه أجبره على قبول التحكيم. و وقعت الاتفاقية بين الفريقين، بتحكيم أبي موسى الأشعري، نيابة عن علي و جيشه، و تحكيم عمرو بن العاص، نيابة عن معاوية ومن معه. و انصرف الجيشان من المعركة إلى بلادهم. أما جيش معاوية فقد رجع صفا واحدا، وقلباً واحداً. و أما جيش علي، فكانوا كما روى الطبري عن عمارة ابن ربيعة: خرجوا مع علي إلى صفين وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من عسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكم " أي إنكار التحكيم" ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله ويتشاتمون، ويضطربون بالسياط. يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله و حكمتم، و قال الآخرون: فارقتم إمامنا، و مزقتم جماعتنا. فلما دخل علي الكوفة، فارقته جماعة الخوارج وهم يعلنون كفره ـ وقد كانوا من أشد أنصاره ـ وكفر من معه؟ لأنه قبـِّل بالتحكيم ، ولا حكم إلا لله عز وجل. و حاول علي أن يقنعهم بالحجة، فأرسل إليهم ابن عباس، فحاجَّهم بكتاب الله، و لزمتهم الحجة، لولا أن الشيطان يفعل في العابد التقي ما لا يفعله في الفاجر الشقي، وزين لهم الشيطان خروجهم على الجماعة واستباحتهم دماء إمامهم وإخوانهم، وتجمعوا في مكان يقال له النهروان، وأخيرا وقعت الواقعة بينهم وبين علي رضي الله عنه فانكسروا شر انكسار، وقتل أكثرهم ، وجرح كثير منهم ، وكان ذلك سنة 38 من الهجرة تدبير المؤامرة وفي عام 40 هـ اجتمع ثلاثة من الخوارج: وهم عبد الرحمن بن ملجم ، والبرك بن عبد الله ، وعمرو بن بكر التميمي، فتذاكروا الناس ، وعابوا على ولاتهم ، كما ذكروا جماعتهم أهل النهروان، وترحموا عليهم وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئاً، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد و ثأرنا بهم لإخواننا فقال ابن ملجم ـ وكان من أهل مصر ـ : أنا أكفيكم علي بن أبي طالب، وقال البرك بن عبد الله أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا و تواثقوا بالله، لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه، حتى يقتله أو يموت دونه، وتواعدوا أن ينفذوا جريمتهم لسبع عشرة تخلو من رمضان، وأقبل كل منهم على المصر الذي يقيم فيه صاحبه الذي تكفل باغتياله فأما البرك بن عبد الله، فقد تربص لمعاوية ليلة السابع عشر من رمضان فلما خرج ليصلي الصبح شذ عليه بسيفه، فوقع في أليته ، وكان معاوية سميناً، فلم يؤثر معه وقبض على البرك وقتل وأما عمرو بن بكر، فجلس لعمرو ابن العاص تلك الليلة، فلم يخرج عمرو، إذ كان قد اشتكى وجعاً في بطنه، وخرج بدلاً عنه خارجة بن حذافة، صاحب شرطته، فضربه ابن بكر بالسيف، فقتله، وقبض الناس عليه، وهو يظن أنه قتل عمرو بن العاص. فلما مثل بين يديه قال له: والله يا فاسق ما ظننته غيرك. فقال عمرو: أردتني و أراد الله خارجة، ثم أمر بقتله فقتل استشهاد علي رضي الله عنه وأما ابن ملجم، فقد نزل الكوفة، فلقي امرأة من تيم الرباب يقال لها قطام، وقد كان أبوها وأخوها ممن قتل من الخوارج يوم النهروان، وكانت بارعة الجمال، ففتن بجمالها، و نسي الغرض الذي جاء من أجله ـ و هو قتل علي رضي الله عنه ـ ، و قرر أن يخطبها لنفسه، فلما كاشفها الأمر ، قالت: آليت ألا أتزوج إلا على مهر لا أريد سواه، فقال: ما هو؟ قالت: ثلاثة آلاف دينار، و عبد، و قينة، و قتل علي بن أبي طالب، فقال لها: لك ما طلبت من المهر ، غير أن قتل علي بن أبي طالب يدل على أنك لا تريدينني!، و إنما تريدين قتلي، قالت: بل ألتمس غزته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، و يهنئك العيش معي، وإن قتلت، فما عند الله خير من الدنيا و زينتها وزينة أهلها، فقال: فوالله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سالت. ثم تربص لعلي ساعة خروجه إلى صلاة الصبح، فضربه بالسيف، و هو يقول: الحكم لله يا علي لا لك و لا لأصحابك، فخز علي رضي الله عنه، و تجمهر الناس، و قبضوا على ابن ملجم، و أدخلوه على أمير المؤمنين فقال لهم: النفس بالنفس، إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت، رأيت رأيي فيه. ثم ظل بعدها يومين أو ثلاثة حتى توفي رضي الله عنه سنة 40 من الهجرة درس و عبرة ولا بد للمسلم من أن يقف طويلا عند مقتل علي رضي الله عنه، فلئن كان عثمان قد قتله الأشرار من دعاة الفتنة، لقد قتل علياً أحد الأشرار ممن انحرفوا في فهم الإسلام، ولبس عليهم الشيطان، فزين لهم قتل!إمام المسلمين على أنه طاعة يشترون بها الجنة، لقد كان الخوارج مشهورين بالعبادة والتقوى وفيهم يقول أبو حمزة الخارجي "عفيفة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة، و أطلاح سهر، باعوا أنفسا تموت غدا، بأنفس لا تموت أبدا " ولكن عبادتهم لم تنفعهم حين انحرفوا في فهم الإسلام ، واستباحوا الخروج عن الجماعة، واستحلوا دم الإمام العظيم و من معه من المسلمين و هكذا زين لهم الشيطان أعمالهم، وأضلهم عن السبيل، ففتحوا باب فتنة كبير على المسلمين، و زادوا في فرقتهم، بعد أن كانوا فريقين: فريقا مع علي، وفريقا مع معاوية، إلى أن أصبحوا فريقا ثالثا لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. داخلهم الزَّهو والغرور بعبادتهم، حتى احتقروا المسلمين و كفروا أئمة الهدى، وأضلوا المغرورين عن دين الله عز وجل وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه، و ها هم أولاء فريق ممن زين لهم الشيطان غرورهم بالطاعة والعبادة يكفرون رجال الإصلاح، و يستحبون لأنفسهم تفريق صفوف الجماعة، و توهين بنيان الدعوة و نكاد نظلم الخوارج الأولين حين نشبه هؤلاء بهم ، فلقد كان أولئك أبطال جهاد لا يكذبون، وهؤلاء أبطال كلام لا يصدقون، و الأمر لله من قبل ومن بعد بعد استشهاد علي رضي الله عنه وهكذا لقي الإمام العظيم ربه بعد جهاد مرير مع خصومه وجنوده، أما خصومه: فقد حملوا في وجهه السلاح، و أما جنوده: فقد نكثوا معه البيعة، و تمردوا على نصحه ورأيه، ثم أفرط فريق منهم حين زعم أنه يغضب لله وينتصر للحق، فإذا هو يستحل الدم الحلال، والعرق البريء، وإذا هو مفرق البنيان المتراص، والشمل المجتمع كان المسلمون حين قتل علي ثلاث طوائف كبرى شيعة لعلي - و شيعة لمعاوية- و خوارج يستحلون دماء الفريقين ولئن كان علي رضي الله عنه على الحق في قتاله مع معاوية ، وكان الذين وقفوا بجانبه هم خيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان من الواجب أن تنتهي هذه الفرقة بعد تنازل الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما لمعاوية بالخلافة، وكان يجب أن يلتئم شمل المسلمين ليتمموا رسالتهم الأولى، وينشروا دعوة الله في الأرض. و لكن أعداء الله و الإسلام، لا يروق لهم اجتماع كلمة المسلمين، فاتخذوا من مقتل علي ثم الحسين بعده ـ رضي الله عنهما ـ وسيلة لإيقاد نار العداء بين جماهير المسلمين، ومنذ قام اليهودي الخاسر عبد الله بن سبأ يتشيع لعلي و يزعم ألوهيته! منذ ذلك الوقت وجد أعداء الإسلام في التشيع لعلي شعاراً يعملون من ورائه لهدم كيان الدولة الإسلامية الفتية، ولو كان علماء المسلمين منذ عهد الصحابة متنبهين تمام التنبه للدسائس اليهودية والوثنية والمجوسية والديانات الحاقدة على الإسلام، لكان تاريخ المسلمين غير هذا التاريخ، ولحفظت حرمات المسلمين وحقنت دماؤهم، ولكان أثرهم في التاريخ أكبر مما جرى به القدر، ولكن الله غالب على أمره فهل يفيق المسلمون من غفوتهم، وهل يتعظون من دروس التاريخ؟! وهل لهم أن يفيئوا جميعا إلى كتاب الله و سنة رسول الله، ويقضوا على هذه الفرقة التي جعلت الجسم الإسلامي مثخنا بالجراح؟ هل لعقلاء أهل السنة و الشيعة أن يلتقوا من جديد، على الدفاع عن هذا الإسلام الذي يحاول أعداؤه القضاء عليه دون أن يفرقوا بين سنة و شيعة؟ هل للفريقين أن يعيشوا في الحاضر عاملين لمصلحتهم بدلا من أن يعيشوا في الماضي متحزبين إلى قوم لقوا الله و قد أصبحوا حبساء أعمالهم كل امرئ بما كسب رهين أبرز نواحي عظمته علمه كان رضي الله عنه من علماء الصحابة، وأشهر فقهائهم، وأدقهم نظرا، وأشدهم توفيقا للحكم الصائب، والرأي السديد، وكان الصحابة يرجعون إليه إذا أشكلت عليهم المسائل ولقد عرف بدقة الفهم، وسداد الرأي منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أرسله عليه السلام إلى اليمن قاضياً، وكان مما عرض عليه في القضاء: أربعة وقعوا في حفرة حفرت ليصطاد فيها الأسد ، سقط أولا رجل ، فتعلق بآخر، وتعلق الآخر حتى تساقط الأربعة ، فجرحهم الأسد ، فماتوا من جراحتهم. و تنازع أولياؤهم حتى كادوا يقتتلون، فقال علي: أنا أقضي بينكم، فان رضيتم فهو القضاء، و إلا، حجزت بعضكم عن بعض حتى تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي بينكم؟ اجمعوا من القبائل الذين حفروا الحفرة ربع الدية و ثلثها و نصفها و دية كاملة، فللأول ربع الدية؟ لأنه كان سببا في هلاك الثلاث الذين هلكوا معه، فسقط من ديته بمقدارهم، وبقي له الربع، و للذي يليه ثلث الدية، لأنه أهلك الاثنين اللذين هلكا بعده، وللثالث نصف الدية؟ لأنه أهلك من بعده ، وللرابع الدية الكاملة ، لأنه هلك بصنع من قبله، ولم يهلك بصنعه أحد. فأبوا أن يرضوا بهذا القضاء، وأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقصوا عليه القصة، فأجاز قضاء علي رضي الله عنه أخرجه الإمام أحمد وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: أقضى أمتي علي و من أقضيته التي تدل على ذكاء وفطنة: جلس اثنان يتغذيان، ومع أحدهما خمسة أرغفة ، ومع الآخر ثلاثة، وجلس إليهما ثالث، واستأذنهما في أن يأكل معهما، فأذنا له، وأكلوا سواء لا، ثم ألقى إليهما ثمانية دراهم، وقال: هذا عوض ما أكلت من طعامكما. فتنازعا في قسمتها، فقال صاحب الخمسة: لي الخمسة، و لك ثلاثة. و قال صاحب الثلاثة: بل نقسمها على السواء. فترافعا إلى علي، فقال رضي الله عنه لصاحب الثلاثة: اقبل من صاحبك ما عرض عليك، فأبى وقال: ما أريد إلا الحق. فقال علي رضي الله عنه: لك درهم واحد وله سبعة، قال: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟. قال: لأن الثمانية أربعة و عشرون ثلثاً: لصاحب الخمسة خمسة عشر، و لك تسعة، و قد استويتم في الأكل فأكلت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الثالث ثمانية، سبعة لصاحبك و واحد لك، فقال:رضيت الآن. و كثيرا ما كان الصحابة يحيلون عليه من يتوجه إليهم بسؤال عن مسالة من مسائل العلم قال أذينة العبدي: أتيت عمر فسألته: من أين أعتمر؟ قال: ائت عليا فاسأله وجاء رجل إلى معاوية فأساله عن مسالة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب، فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين جوابك فيها أحب إلي من جواب علي. فقال له معاوية: بئس ما قلت: لقد كرهت رجلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزره بالعلم غزرا وسئلت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت: ائت عليا فسله وكثيرا ما رد عمر عن قضائه حين يخطئ، رفعت إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها، فقال له علي: إن الله تعالى يقول :"وحمله وفصاله" الأحقاف 15، وقال تعالى: "وفصاله في عامين" لقمان 14 ، فالحمل ستة أشهر ، و الفصال في عامين. فترك عمر رجمها وقال:" لولا علي لهلك عمر" أخرجه العقيلي و رفع إلى عمر أمر امرأة حامل من الزنا، وقد اعترفت به، فأمر برجمها، فتلقاها علي و قال: ما بال هذه؟ قالوا: أمر عمر برجمها، فردها علي وقال لعمر: هذا سلطانك عليها، فما سلطانك على ما في بطنها؟ ـ يعني الحمل ـ ولعلك انتهرتها أو أخفتها ، قال: فقد كان ذلك. فقال علي: أو ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حد على معترف بعد بلاء؟ إنه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له " فخلى سبيلها وهكذا كان علي رضي الله عنه ، يحل المشكلات ، وينبه إلى الأخطاء ، حتى كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها علي رضي الله عنه شجاعته كان رضي الله عنه من الشجاعة بالمحل الأوفى. أبلى يوم بدر بلاء حسنا. برز من المشركين في معركة بدر ثلاثة من أبطالهم يطلبون البراز ، وهم عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من أقرانهم ، أخرج عبيدة بن الحارث لعتبة بن ربيعة وحمزة لشيبة بن ربيعة ، وعليا للوليد بن عتبة. فقتل علي صاحبه، وقتل حمزة صاحبه، وأما عبيدة وعتبة فاختلفا بضربتين، كلاهما جرح صاحبه فحمل حمزة و علي على عتبة فقتلاه و أبلى رضي الله عنه في معركة أحد بلاء مشهوداً، وقد قتل فيها حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون في أحد، ولما جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، و علي يسكب الماء ثم كان حامل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حمراء الأسد بعد غزوة أحد أما في معركة الخندق ـ غزوة الأحزاب ـ فقد كان له البلاء المشكور. خرج من صفوف المشركين عمرو بن ود و نادى المسلمين: من يبارز؟ فبرز له علي رضي الله عنه، فقال له: يا عمرو ، إنك قد كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه. قال له: أجل، قال له علي: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، فقال: لا حاجة لي بذلك. قال: فإني أدعوك إلى النزال. فقال له عمرو: لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمي عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على علي، فتنازلا و تجاولا، فقتله علي رضي الله عنه. وفي معركة خيبر، تعذر فتح الحصون على المسلمين أولا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: "لأعطين الراية غداً رجلا يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار. ثم دعا عليا، و هو أرمد، فتفل في عينه ، فبرئت ، ثم خرج علي ، فلما دنا من الحصن، خرج إليه أهله فقاتلهم ، فضربه رجل من يهود ، فطرح ترسه من يده ، فتناول رضي الله عنه بابا كان عند الحصن ، فترس به عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتى فتح الله عليه،ثم ألقاه من يده حين فرغ. قال أبو رافع ـ وكان مع علي في هذه الموقعة ـ : فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه سئل ابن عباس: أكان علي يباشر القتال يوم صفين؟ فقال: و الله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلف من علي، ولقد كنت أراه يخرج حاسر الرأس ، بيده السيف، إلى الرجل الدارع فيقتله ورعه و زهده قال لعمر و هو في خلافته: يا أمير المؤمنين، إن سرك أن تلحق بصاحبيك ـ يعني رسول الله وأبا بكر ـ فاقصر الأمل ، وكل دون الشبع ، واقصر الإزار وارفع القميص ، واخصف النعل تلحق بهما وهذا يدلل على روحه و طبيعته وطراز الحياة التي يحبها وكذلك عاش رضي الله عنه في خلافته، يلبس الخشن من الثياب ، و يتعفف عن أموال المسلمين قال أبو سعيد الأزدي : رأيت عليا في السوق وهو يقول: من عنده قميص صالح بثلاثة دراهم؟ فقال رجل: عندي. فجاء به ، فأعجبه ، فأعطاه ثم لبسه، فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه ، فأمر به لقطع ما فضل عن أصابعه وقد عوتب في لباسه الرخيص فقال: مالك و اللبوس؟ إن لبوسي هذا أبعد من الكبر، و أجدر أن يقتدي به المسلم. ودخل عليه رجل في أيام البرد، فوجده يرعد من البرد، وهو يلبس دثاراً بالياً، فقال له: يا أمير المؤمنين!إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع؟ فقال علي: ما أرزؤكم من مالكم، و إنها لقطيفتي ـ دثاري ـ التي خرجت بها من المدينة وصف ضرار لعلي وخير ما نختتم به هذه الأحاديث عن علي، وأخلاقه، و نواحي عظمته، ما أخرجه الدولابي: أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليا ـ وكان ذلك بعد استشهاده ـ فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفه. قال ضرار: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فضلا، و يحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا و زهرتها ، و يأنس إلى الليل و وحشته، وكان غزير العَـبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن. كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويقرب المساكين ، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله. وأشهد بالله: لقد رأيته في بعض مواقفه ـ وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ يميل في محرابه قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، أليَّ تعرضت؟ أم إليَّ تشوفت؟ هيهات هيهات! قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، و مجلسك حقير، و خطرك قليل، آه آه من قلة الزاد، و بعد السفر، و وحشة الطريق فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح واحدها في حجرها، لا ترقأ دمعتها، ولا يسكن حزنها. يرحمه الله، و يجزل له المثوبة، و يجعل لنا في سيرته خير عظة و عبرة وصيته للمسلمين ولما حضرته الوفاة أوصى فكان من وصيته:"أوصيكم بتقوى الله ربكم ، ولا تموتن إلا وانتم مسلمون" و أعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" آل عمران ، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام"، الله اللهَ في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله في ذمة نبيكم، فلا يظلمن بين أظهركم، والله الله في أصحاب نبيكم، فإن رسول الله أوصى بهم ، لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم ، وقولوا للناس حسنا ، كما أمركم الله ، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل و التباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، أستودعكم الله وصيته لأولاده دخل جندب بن عبد الله على علي رضي الله عنه، يوم طعن، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن فقدناك ـ ولا نفقدك ـ هل نبايع الحسن؟ فقال رضي الله عنه: ما آمركم ولا أنهاكم ، أنتم أبصر ثم دعا الحسن والحسين رضي الله عنهما، فقال لهما: "أوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا و إن بغتكما، ولا تبكيا على شيء ذوى عنكما، و قولا الحق، وارحما اليتيم، و أغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، و كونا للظالم خصماً، و للمظلوم ناصراً، و اعملا بما في الكتاب، و لا تأخذكما في الله لومة لائم ثم أوصى ابنه محمد بن الحنفية بما أوصى أخويه، وأوصاه بتوقير حقهما، وأن لا يقطع بأمر دونهما، ثم أوصاهما به، و قال: "علمتما أن أباكما كان يحبه "اعملوا في غير رياء ولا سمعة، فإنه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له. لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيراً له من المال يورثه غيره الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه، و هو لباس التقوى، و درع الله الحصينة، و جنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه، ألبسه الله ثوب الذل، وشمله البلاء. لو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى العسل، ولباب القمح، و نسائج القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، أفأبيت مبطاناً وحولي بطن غرثى ـ جائعة ـ، وأكباد حرى ـ ظمأىـ ، أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر. أو أكون لهم أسوة في خشونة العيش من كتابه إلى الأشعث بن قيس عامله على أذربيجان:"إن عملك ليس لك بطعمة. ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة ـ أي إلا أن تكون مستوثقا محتاطاـ. احفظوا عني خمسا، فلو ركبتم الإبل في طلبهن، لأنضيتموهن قبل أن تدركوهن: لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، ولا يستحي عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول:الله أعلم، و الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له المصدر : "عظماءنا في التاريخ" للأستاذ مصطفى السباعي |